أوباما : التراجع عن بايكر هاملتون و العودة إلى كيسينجر
ناصر قنديل
الحديث عن غياب إستراتيجية واضحة لدى إدارة الرئيس الأميركي تجاه الملفات الشائكة في المنطقة ، لم يعد يقتصر على منتقدي هذه الإدارة داخل الولايات المتحدة الأميركية وخارجها ، فقد دخل على خط الحديث عن الفراغ الإستراتيجي ، الكثير من الكتاب والمفكرين الذين روجوا قبل عامين لمغامرة تغيير يقودها المرشح باراك أوباما .
وإذا كان واضحا أن السياسات الأميركية على الساحة الدولية تتخذ عموما إتجاه التراجع عن التوجهات الحربية لإدارة الرئيس السابق جورج بوش، فيما عدا الحرب على أفغانستان ،فإنه من الممكن أيضا تفسير بعض خطوات التراجع في خدمة مواصلة الحرب في أفغانستان ، فمن المبكر مثلا إحتساب التفاهمات المتلاحقة مع روسيا ، والتي تتخذ أشكالا مباشرة وغير مباشرة في ترجمتها ، على رؤيا تراجعية عن خيارات الحرب ، بينما يراها البعض ترجمة لخدمة سياسات الحرب التي تعثرت بسبب ما يسمونه الرعونة والغرور في معاملة روسيا، كما يقول وزير الخارجية الأسبق هنري كيسينجر ، في وصف مشروع الدرع الصاروخية في تشيكيا وبولندا ، ومحاولة وضع اليد الأميركية في الجيب الروسي ،عبر العبث في الحديقة الخلفية لروسيا بضم جورجيا وأوكرانيا إلى الحلف الأطلسي ، وخلافا لأقرانه الذين دعوا لتصويب العلاقة مع روسيا على قاعدة رؤيا عامة للتراجع عن سياسات الحرب ، كان كيسينجر يرى في التفاهمات مع روسيا مهما كانت مكلفة ، خارطة الطريق الوحيدة لكسب ما تبقى من الحروب ، وخصوصا المواجهة مع إيران والحرب في أفغانستان .
إتفاقيات الحد من إنتشار الصواريخ والتغييرات في خريطة الجوار الروسي التي تتخذ أشكالا متعددة ، تفاهمات ، ثورات مضادة ، أحداث قدرية ، تعديلات حكومية ، كلها تصب في إتجاه جعل العلاقة الروسية الأميركية أكثر هدوءا ، لكن ذلك لا يعني حكما إتجاه الإدارة الأميركية لإقفال ملفات النزاعات التي فتحتها الإدارة السابقة ، بينما تتزايد المؤشرات على روح التصعيد في التعامل مع ملفي أفغانستان وإيران ، التي وصلت إلى تهديد الرئيس الأفغاني المدعوم أميركيا ومعاملته بطريق خشنة تشبه ما يلقاه مواطنوه من القوات الأميركية وهو الآتي على الدبابة الأميركية ، وعلى الضفة الأخرى العودة إلى التحرك لحشد دولي يسمح بتشديد العقوبات على إيران .
ما يعطي المزيد من المصداقية للتحليل الذي يضع السياسات الأميركية تجاه روسيا في خانة الرؤيا الكيسينجرية ، هو التردد في سلوك خطوات واضحة وحاسمة تجاه القضية التي يجمع المفكرون والخبراء الأميركيون على إعتبارها مفتاح تحسين الصورة الأميركية أمام الشعوب العربية والإسلامية ، وهي القضية الفلسطينية ، حيث نشهد صوتا اميركيا مرتفعا نسبيا في الإحتجاج على بعض المواقف الإسرائيلية، وإمتناع مطلق عن اي خطوات حقيقة تزعج إسرائيل أو تلزمها بإعادة النظر بحساباتها .
الواضح إذن أن تراجعا جذريا جرى عن الرؤيا التي سوق المفكرون الديمقراطيون لتحولها إلى إستراتيجية الإدارة الجديدة ، كما كتب ريتشارد هاس عن وثيقة بايكر هاملتون كدليل عمل في تصفية التركة الثقيلة التي خلفتها حروب جورج بوش ، ووثيقة بايكر هاملتون لم يبق منها في سياسات إدارة أوباما إلا الإنسحاب من العراق ، وتبخر الأهم والأبرز من نصائح الوثيقة التي قامت على مقاربة مشاكل الحروب التي أطلقتها إدارة الرئيس بوش على قاعدة أن ألقضية الفلسطينية هي بوابة الحلول، وأن إعادة صياغة السياسة الدولية للولايات المتحدة مطلوب منها تحسين العلاقات مع روسيا وأوروبا وإعادة ألإعتبار للمنظمات الدولية، و لكن هذا لن يصنع الإستقرار من دون خطوات جريئة في مجالات عدة تناولتها، أبرزها حل القضية الفسطينية على قاعدة القرارات الدولية بما فيها حق العودة للاجئين الفلسطينيين ، والتسليم بمكانة ودور سوريا الإقليميين في لبنان والعراق والسلام في المنطقة ، والتسليم المقابل بإيران نووية ودولة إقليمية عظمى ذات نفوذ حاسم في قضايا أمن الطاقة والخليج والعراق وافغانستان، وصولا إلى الدعوة إلى إعادة النظر في التعامل مع حركات المقاومة الوطنية في المنطقة والتدقيق في صحة توصيفها بالإرهاب .
كيسينجر بصفته أول من رفض الوثيقة وإعتبرها إعلان هزيمة مركبة لا تتحملها الولايات المتحدة ، رسم بديله المزدوج بالدعوة لترميم تعاون الدول العظمى وخصوصا روسيا والصين وعقد صفقات معها أقل كلفة من التسليم بقوى إقليمية عظمى تدخل كلاعب معترف به الساحة الدولية ، ودعا على هذه القاعدة إلى الإنخراط المشروط مع اللاعبين الجدد وخصوصا سورياوإيران ، و محور التفاوض هو حماية وأمن إسرائيل التي لا تتحمل البقاء إذا فرضت عليها توصيات بايكر هاملتون .
الواضح أن إدارة أوباما تركت نظرية هاس عن عالم بلا أقطاب ونصائح بايكر هاملتون لحل القضايا الشائكة بإعترافات جريئة، ولجأت إلى معادلة كيسينجر لتمييع الصراعات وإعادة بناء إحتكار دولي جديد يتقاسم فيه اللاعبون الكبار الأدوار، وفقا لمعادلات اقل طموحا من مشروع المحافظين الجدد الإحتكاري القائم على القطبية الأحادية، وتبدو التعددية القطبية بملامح جديدة مضمون خطة أوباما وإدارته على قاعدة تجاهل الملفات الصعبة وتأجيلها لحين تبلور التفاهمات الدولية الجديدة .
في هذا السياق يصبح الإنفتاح على القوى الصاعدة ومواصلة سياسات الضغط عليها في آن واحدة ، تعبيرا عن العودة المتجددة لمعادلة الإحتواء المزدوج التي رسمها كيسينجر نفسه في الثمانينات ، تحت عنوان لا عداء ولا صداقة ، لا حرب ولا سلام ، ولا مانع من التفاوض للتفاوض ، وربما يكون التعاون الإجرائي بديل عن التفاهم السياسي المفقود .
بغض النظر عن فرص هذه النظرية الكيسينجرية بالنجاح ، وهي فشلت في ايام عظمة القوة الأميركية السوفياتية التي كانت تتقاسم العالم في إنهاء القضية الفلسطينية وتذويب تطلعات الدول النامية لدخول نادي الكبار كما كان الحال مع الصين ، وبغض النظر عن طبيعة التعامل الروسي والصيني مع إنفتاح أميركي مفضوح الخلفيات في زمن الضعف بعد محاولات الحصار في زمن وهم القوة ، و بغض النظر عن مفاعيل تغير الأزمنة والقوى العظمى هرمة والقوى الصاعدة شابة ومتحفزة وحركات المقاومة تحقق الإنتصارات ، إلا أن النتيجة الواضحة هي أن زمان الإستقرار يبدو بعيدا عن منطقتنا، التي سوف تتحول إلى مختبر لنظريات كيسينجر مرة أخرى ، حتى تنضج في العقل الأميركي حقيقة أن الذي تغير في المنطقة والعالم أكبر من ان يتم إحتواؤه بالتكتيكات ، بينما المطلوب تغيير الإستراتيجيات وليس حقنها بمصل يمدد لها فترة البقاء على قيد الحياة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق