Powered By Blogger

الجمعة، 18 يونيو 2010

Bookmark and Share

التجربة التركية: هل يمكن للعرب أن يستفيدوا منها؟

إرسال إلى صديقطباعةPDF
 كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن أشكال النجاحات التي حققتها تركيا وتحققها في العديد من المجالات، وخاصة بعد استلام حزب العدالة والتنمية مقاليد الحكم في البلاد منذ عام 2002م.
كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن أشكال النجاحات التي حققتها تركيا وتحققها في العديد من المجالات، وخاصة بعد استلام حزب العدالة والتنمية مقاليد الحكم في البلاد منذ عام 2002م.
وعندما نتحدث عن ثراء التجربة التركية فإننا نتناولها في شموليتها؛ التجربة الديمقراطية والتجربة الثقافية والتجربة الاقتصادية والتجربة الاجتماعية وغيرها... ونود هنا أن نلقـي الضوء على أشكال تلك النجاحات في مقابل الإخفاقات المتكررة التي يعاني منها العالم العربي وهو الأمر الذي بث مشاعر الإحباط في جماهير الأمة العربية وحتى في نفوس نخبها ومثقفيها وجعل بعض المثقفين يطالب في دلالة واضحة بنفض يده من الساسة العرب إلى استعارة رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان عله يستطيع إصلاح ما أفسده الدهر في البلاد العربية.
لقد سمحت لي الفترة التي قضيتها في تركيا من معايشة الواقع التركي في جميع تجلياته، ولم أكن أقرأ فقط حول تركيا بل كنت أعايش الأحداث وأتابعها عن قرب. كنت أتابعها وأنا أتساءل باستمرار بيني وبين نفسي، ما السر الذي مكـن الأتراك من الانتقال ببلدهم في خلال سنوات قليلة من بلاد لا يـُقرأ لها أي حساب إلى بلاد يقرأ لها ألف حساب؟ ما سر النهضة العارمة التي نراها في جميع المجالات؟ وما سر الأمل الذي أصبح يحرك المواطن التركي فانطلق يبذل أقصى ما لديه من طاقة في سبيل خدمة بلاده وتطورها؟ ما سر النهضة الكبيرة التي شملت البنى التحتية من مؤسسات وطرقات وجسور ومطارات وجامعات وأنفاق تحت الأرض ومحطات إعلامية وصحف؟ ما سر الانفتاح الذي حصل خصوصا على العالم العربي؟ وما سر الدعم الذي لا يتردد الأتراك حكومة وشعبا في تقديمه لقضية العرب الكبرى فلسطين حتى شاهدنا رئيس وزراء البلاد يغضب في وجه رئيس دولة إسرائيل بل ويتركه وينسحب من الاجتماع الذي جمعه به في "دافوس"، ورأينا الأتراك يشاركون بقوة في أسطول الحرية، ويردون بقوة على اعتداء قوات الاحتلال على الأتراك المشاركين في محاولة كسر الحصار على غزة؟ لماذا أصبحت تركيا فاعلة في منطقة الشرق الأوسط والعالم كله بينما يتضاءل دور العرب حتى أصبح باهتا لا يكاد يسمع له صوت؟
أسئلة كثيرة جدّا يمكن أن نسترسل فيها بباعث الإعجاب من ناحية وباعث الحيرة والدهشة من ناحية ثانية. الإعجاب بهذه الانطلاقة التركية وهذه الحركية التركية وهذه العزيمة التركية وهذا الاندفاع التركي في جميع الاتجاهات وفي جميع المجالات في مقابل حيرة شديدة من الواقع العربي ومن السياسة العربية ومن الانحطاط العربي الذي نشهده ونشاهده كل يوم وفي جميع المجالات حتى انحصرت مشاغل الحكام العرب في مسائل مثل الفساد والتوريث وغياب الديمقراطية، وتراجعت مشاغل المواطن العربي من البحث عن الحرية والكرامة والديمقراطية إلى مطالب أدنى بكثير مثل الانشغال بالبحث عن العمل ولقمة العيش، وظلت فئات كبيرة من الشباب العربي تلقي بنفسها بين أمواج البحر العاتية طمعا في واقع أفضل على الجانب الآخر من البحر. والآلاف منهم ذهبوا طعما للأسماك في عمق البحر.
في محاولة للرد على بعض تلك الأسئلة السابقة التي طرحتها يمكن القول إن من أكبر الأسرار في النهضة التركية الراهنة هي توفّر عاملين مهمين: الديمقراطية والنّـزاهة. فالتجربة الديمقراطية في تركيا مكنت الشعب التركي من الإدلاء بصوته ورأيه بصورة شفافة، ولم يخامره شك لحظة من اللحظات بأن رأيه هو الفاصل في المسألة. وهذه النزاهة التي ميزت التجربة الديمقراطية في البلاد ضمان مهم لكي تظل الثقة قائمة بين المواطن ومؤسسات الدولة.
ولكي ندرك حجم التحول الذي حدث في تركيا يمكننا الحديث عن اسطنبول باعتبارها تجسد حجم ذلك التحول الذي حدث في البلاد، والطريف أن الذي حول أوضاع بلدية اسطنبول هو نفسه الذي حول الأوضاع في تركيا برمتها. يذكر أهالي اسطنبول أنه في عام 1993 كانت إدارة بلدية اسطنبول الكبرى بيد حزب الشعب الجمهوري وهو الحزب الذي أنشأه كمال أتاتورك مؤسس الجمهورية التركية الحديثة، في تلك الفترة كانت أكياس القمامة تملأ الشوارع، والروائح الكريهة تزكم الأنوف، وكان الماء لا يصل إلى الطوابق العليا من العمارات بسبب النقص الحاصل فيها. ويذكر الساكنون على ضفاف خليج القرن الذهبي - وهو الخليج الفاصل بين منطقة تقسيم ومنطقة الفاتح- أن الروائح الكريهة المنطلقة من الخليج كانت تعكر صفو حياتهم، وتهددهم بالأمراض في كل لحظة، وكانت الديون المستحقة على البلدية حينذاك تتجاوز الملياري دولار...
ثم انتقلت إدارة البلدية حينذاك إلى رجب طيب أردوغان رئيس الحكومة حاليا، وفي خلال سنوات قليلة حدث تغيير هائل، وأصبحت المدينة من أجمل المدن وأكثرها نظافة، وتم غرس مئات الآلاف من الأشجار وإنشاء عشرات الحدائق والمساحات الخضراء في كل مكان لكي تكون متنفسا للأسـر والأفراد، ووضعت فيها ألعاب الأطفال مجانا، وشرع في حملة ضخمة تم على إثرها تطهير الخليج بكامله من الأوساخ والنفايات، واليوم ترى الناس يصطادون الأسماك على ضفاف هذا الخليج. لقد عادت الحياة مرة ثانية إلى هذا المكان بعد أن كان محرّمًا على الكائنات الحية دخوله.
لقد استثمرت بلدية مدينة اسطنبول الكبرى أموالا طائلة فيما بين عامي 2004 و 2009 بلغت 22،6 مليار دولار في العديد من الأنشطة الاجتماعية والبنية التحتية. فعلى سبيل المثال تم مد 28 كيلومترا لخطوط الترام والمترو وشق عشرة أنفاق وإضافة 3278 كلم لشبكة المجاري والصرف الصحي وألف كلم لشبكة المياه، وزيادة 55% للمساحات الخضراء وجمع 15 مليون طن من النفايات يوميا وإسكان 30 ألف أسرة. وبالإضافة إلى ذلك فإن بلدية اسطنبول وخلال الفترة ذاتها أنشأت 18 مركزا ثقافيا وقاعات للمؤتمرات و11 مكتبة عامة وقامت بترميم 81 أثرا تاريخيا.
وفي المجال الصحي أنشأت 32 مركزا للعناية الصحية و18 بيتا للمسنين و14 مركزا اجتماعيا. وتم بناء 120 مدرسة متنوعة ومشروع أنترنت مجاني بالأماكن العامة كما تولت توزيع 550 ألف جغرافي على الطلاب، وهي تقدم كل عام منحا دراسية لحوالي 150 ألف طالب من داخل تركيا ومن خارجها، وتولت مساعدة 170 ألف أسرة فقيرة وتنتج يوميا نحو مليوني رغيف من الخبز بسعر رخيص جدا.  
وتلعب الأوقاف والجمعيات دورًا مهما في الحياة الاجتماعية والثقافية بتركيا، ويمكننا في هذا المجال أن نورد مثالا من الأوقاف ومثالا من الجمعيات. فلقد أصبحت هيئة الإغاثة والمساعدات الإنسانية (IHH) من أشهر الأوقاف في العالم بفضل ما تقدمه من مساعدات للمسلمين ولغير المسلمين على حد سـواء. ويكفي أن نشير إلى أن المساعدات التي قدمتها هذه الهيئة خلال عيد الأضحى للسنة الماضية قد شملت أكثـر من 110 دول في العالم وتسعى كل عام إلى زيادة هذا العدد. وقد استفاد من هذه المساعدات الملايين من الفقراء في شتى أنحاء العالم وخصوصا الدول الفقيرة في أفريقيا. وبالإضافة إلى ذلك فقد شيدت الهيئة عددا كبيرا من المدارس والمستشفيات والمساجد في أمكان كثيرة من العالم، وفي السودان فتحت مركزا طبيا كبيرا يجري فيه أطباء وممرضون من تركيا عمليات جراحية على المصابين بمرض إظلام عدسة العين، ويأتيه المرضى من دول أفريقية كثيرة. وقامت كذلك بحفر المئات من الآبار في المناطق التي تعاني من شح الماء، كما أن هذه الهيئة فتحت لها فرعا في غزة عقب الحرب الإسرائيلية لعام 2009 على القطاع وتساهم اليوم بقدر كبير في رفع المعاناة عن أهالي غزة المحاصرين.       
أما المثال الثاني فهو جمعية "باب العالم" التي أنشئت قبل سنوات قليلة في اسطنبول وتهدف إلى مساعدة الطلاب الأجانب الذين يفدون إلى تركيا، وقد فاق عدد الجنسيات المسجلة في الجمعية السبعين جنسية من أنحاء العالم، وتلعب دورا كبيرا في استقبال الطلاب المسلمين وغير المسلمين وتوجيههم وتقديم المساعدات اللازمة لهم من سكـن ومنح جامعية وتعليم للغات التركية واللغة العربية والإنكليزية مجانا ودورات في أنشطة مختلفة أخرى. فهي بالفعل تمثيل لطلاب العالم فتحت لهم الباب حتى يستفيدوا من وجودهم في تركيا أفضل إفادة، وبعد أن يغادر الطالب تركيا من الصعب جدا أن ينسى أولئك الذين وقفوا إلى جانبه في أصعب الأوقات، فهم يصبحون سفراء لتركيا لدى بلدانهم ينقلون إليها صورة مشرقة عن تركيا.
أما في الجانب العلمي فإن الفرق شاسع جدا بين ما تصدره الجامعات التركية من كتب ومؤلفات وبين ما يصدر في الجامعات بالعالم العربي، كما أن حركة الترجمة من اللغات الأجنبية إلى اللغة التركية نشطة جدا، وهي 3 أضعاف ما يترجم من اللغات الأجنبية إلى اللغة العربية في العالم العربي كله. ولا شك أن مجال الحرية المتوفر هناك له دور كبير في هذه الحركية بالإضافة على العناية التي توليها الدولة للعلم وللبحث العلمي.         
هذا على الصعيد الداخلي أما على الصعيد الخارجي فقد نجحت تركيا في كسر الحواجز التي ظلت محبوسة داخلها لمدة عقود من الزمن، فبعد أن وصل حزب العدالة والتنمية إلى السلطة قامت الحكومة التركية بمراجعة شاملة لعلاقاتها مع دول الجوار ودول العالم، ومن أهم تلك التغييرات تحول سوريا من دولة كانت تعتبر عدوا، كادت الحرب تنشب بينهما في عهد حكومة بولنت أجاويد اليسارية، إلى دولة تربطها بها اتفاقيات تعاون استراتيجي في المجالات الاقتصادية والعسكرية، وتم إلغاء تأشيرة الدخول وتسهيل تنقل الأفراد بين البلدين.
وفي سياق التحول التركي نحو الشرق بعد أن استفزتها المماطلات الأوروبية في موضوع انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي تم إلغاء تأشيرات الدخول مع عدد من الدول العربية الأخرى. وكان موقف رئيس الحكومة رجب طيب أردوغان والشعب التركي بشكل عام من الحرب على غزة عاملا قويا في تقريب الصلة بين الشعوب العربية والشعب التركي، بل لقد نادى بعض الكتاب الغيورين من العرب "باستعارة" السيد رجب طيب أردوغان لبعض الوقت لكي يصحح أوضاعنا العربية البائسة.
والسؤال القائم بإلحاح هل يمكن للعرب أن يدرسوا ظاهرة النجاح التركية داخليا وخارجيا بتبصر ويبحثوا بجد في العوامل التي قفزت بتركيا من دولة ذليلة تنتظر على أبواب الاتحاد الأوروبي إلى دولة تعتز بنفسها وتعلن صراحة بأنها تريد أن تدخل إلى نادي الكبار بعد سنوات قليلة.
لقد قال وزير الخارجية التركي أحمد داوود أوغلو مهندس السياسة الخارجية التركية إنه على العالم من الآن فصاعدا أن يغير نظرته إلى تركيا، وتركيا سوف تتصرف باعتبارها دولة قوية. ولم يمض وقت طويل حتى ثبت كلامه على أرض الواقع، بعد أن أجبرت الخارجية الإسرائيلية على الاعتذار المكتوب للسفير التركي في تل أبيب، بعد أن هدد الرئيس التركي عبد الله غول بسحبه إذا لم تعتذر في وقت محدد.
نحن في العالم العربي ننتظر منذ زمن طويل موقفا قريبا من هذا، ولكن يبدو أن الانتظار سوف يطول قبل أن يطل علينا رجال يستطيعون أن يقولوا "لا" بملء أفواههم، ويستطيعون أن يصرخوا في وجه المعتدي مثلما فعل السيد أردوغان في وجه بيريس في منتدى دفوس، وتفعل تركيا كلها اليوم في وجه إسرائيل.
بما أن العقول معطلة، والعزائم محبطة عن الإبداع، فلا أقل للعرب أن يدرسوا التجربة التركية باعتبار أنها تجربة جاهزة، ويحاولوا الاستفادة منها، وأخذ ما يصلح لهم قبل أن تدوسهم الأقدام ولا يجدوا حتى الوقت الكافي للمراجعة والتفكير.

ليست هناك تعليقات: