

الأحد, 20 يونيو 2010
حين انفجر حادث مقتل الشاب خالد سعيد في مناسبة مرور خمسين عاما على قتل المناضل اليساري شهدي عطية، فإن ذلك التزامن جاء كاشفا لحقيقة بالغة الأهمية ينبغي أن نفتح أعيننا عليها جيدا، لكي نعرف في أي اتجاه «نتقدم». لقد قتل شهدي عطية بسبب التعذيب، الذي تعرض له في سجن أبوزعبل يوم 15 يونيو عام 1960. وبسرعة تحركت الآلة التقليدية للتستر على ما جرى، فذكر تقرير الطبيب الشرعي، أن شهدي كان قادما متعبا من تحقيق أجري معه في سجن الحضرة بالإسكندرية، وفي حينها أدخل إلى المستشفى لرعايته، لكنه في اليوم التالي لوصوله طلب مقابلة مأمور السجن ليشكو له حالته فأذن له. لكنه تعثر أثناء نزوله على السلم فوقع على الأرض وتهشمّت رأسه، ولأنه كان ضعيف القلب فقد فاضت روحه على الفور، وكان يمكن أن يمر الأمر دون أن يشعر به أحد، لولا أن زوجته اليونانية سارعت إلى إبلاغ «الرفاق» في اليونان ويوغوسلافيا وفرنسا بما جرى له، وهو ما أسهم في تسرب الخبر إلى الخارج. وتصادف أن كان الرئيس جمال عبدالناصر آنذاك في زيارة إلى يوغوسلافيا. وشاءت المقادير أن يرتب له هناك لقاء مع أعضاء اللجنة المركزية للحزب الشيوعي، الذين أثاروا الموضوع معه. ولم يكن له علم به. فأرسل من بلجراد إلى القاهرة مستفسرا عما جرى وطالبا وقف التحقيق في القضية. وحين علم بذلك زملاؤه في المعتقل، فإنهم سارعوا إلى إبلاغ المحققين بأن الرجل قتل أثناء التعذيب وبسببه. مكذبين ما ورد في التقرير الرسمي عن سقوطه على الدرج وتهشم رأسه.
قصة مقتل خالد سعيد بالإسكندرية تكررت فيها نفس الوقائع. فالشاب قتل أيضا وهو بين أيدي الشرطة. والرواية الرسمية أنه حين حاول اثنان من المخبرين السريين إلقاء القبض عليه، فإنه ابتلع حزمة البانجو المخدر، التي كانت معه، ما أدى إلى اختناقه وموته. وقال تقرير الطبيب الشرعي إن سبب الوفاة يرجع إلى إصابته باسفكسيا الخنق وانسداد القصبة الهوائية ما تسبب في الوفاة. لكن أسرته والشهود أجمعوا على أن الشرطة أرادت أن تصفي حسابا معه، فلاحقه اثنان من المخبرين السريين لإلقاء القبض عليه، لكنه قاومهما لأنه لم يكن يعرف من هما. فانهالا عليه بالضرب الوحشي ثم قيدا يديه. وحين حاول أن يحتج عليهما فإنهما قاما برطم وجهه في رخامة على باب المكان ما أدى إلى تحطيم أسنانه وكسر فكه. ثم سحباه إلى الشارع وواصلا ضربه والفتك به حتى سقط ميتا. ولأن ذلك كله جرى أمام الناس فإن القصة تناقلتها جماهير الإسكندرية. وساعد على انتشارها أن أحدهم التقط صورته وهو مهشم الوجه، وتم تناقل الصورة على مختلف مواقع الإنترنت. وإن أثار الحادث غضب الناشطين، فإن أعدادا منهم خرجت في مظاهرات احتجاجية ضد الداخلية في الإسكندرية والقاهرة. في الوقت ذاته، فإن أعدادا أخرى قامت بترجمة وقائع ما جرى إلى اللغتين الإنجليزية والألمانية، ومن ثم ذاع أمر الفضيحة في مختلف أنحاء العالم، وتلقفتها منظمات حقوق الإنسان التي سارعت إلى التنديد بما حدث. وأعربت الخارجية الأميركية عن قلقها إزاء ما جرى، وأعلن المتحدث باسم الوزارة فيليب كراولي في 14/6 أنه تم الاتصال بالحكومة المصرية بخصوص وفاة خالد سعيد، فأصدر النائب العام قرارا باستخراج جثته وإعادة تشريحها للتعرف على سبب الوفاة، وانتقل رئيس نيابات الإسكندرية لمعاينة الواقعة والاستماع إلى شهودها. وينتظر أن تعلن نتيجة فحص لجنة الطب الشرعي في منتصف الأسبوع الجاري.
ثمة قواسم مشتركة بين قتل شهدي عطية وخالد سعيد. منها أن الاثنين قتلا وهما بين أيدي الشرطة. وأن الطب الشرعي تستر على الجريمة في الحالتين، وأن السلطة لم تتحرك إلا بعد أن ذاع خبر الفضيحة في الخارج. لكن هناك فروقا مهمة في دلالتها لا بد من الانتباه إليها. منها أن شهدي عطية كان مناضلا سياسيا، وأنه قتل في السجن، ثم إن التحرك حدث بعد أن دافع «رفاقه» عنه. أما في حالة خالد سعيد فإنه كان مواطنا عاديا وليس سياسيا، وأنه قتل في الشارع أمام ملأ من الناس، أما الذي دافع عنه فقد كان المجتمع بالدرجة الأولى.
خلاصة درس المقابلة بين الحالتين أن تعذيب الشرطة لم يتوقف خلال الخمسين عاما، وأن دائرته اتسعت، إذ لم تعد مقصورة على المواطنين المسيسين وفي السجون فحسب، وإنما أصبحت تشمل المواطنين العاديين في الشارع أيضا. وفي حين تعد تلك خطوة إلى الوراء، فإن المجتمع الذي ثار لما حل بخالد سعيد أصبح أكثر يقظة واستنفارا، وساعدته على ذلك وسائل الاتصال الحديثة التي أسهمت في فضح الجريمة.
إن السؤال المرير الذي يطرح نفسه الآن هو: إذا كانت الشرطة لم تتوقف عن سياسة التعذيب طوال خمسين عاما، وإذا كانت قد وسعت من نطاق التعذيب بحيث بات يشمل المواطنين العاديين، فكم يا ترى عدد الذين قتلوا طوال تلك الفترة ودفنت جثثهم في قبو الصمت؟!
غدا لنا كلام آخر في الموضوع.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق